.الموشحات والأزجال للأندلس:
وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله:
بدر تم شمس ضحا ** غصن نقا مسك شمما أتم ما أوضحا ** ما أورقا ما أنملا جرم من لمحا ** قد عشقا قد حرموزعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان ** سافر عن بدرضاق عنه الزمان ** وحواه صدريصرف ابن بقي موشحته وتبعه الباقون وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد ** في مجده العاليلا يلحق أطلعه الغرب ** فأرنا مثله يا مشرقوكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض وكان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
جرر الذيل أيما جر ** وصل الشكر منك بالشكرفطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر ** لأمير العلا أبي بكرفلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: واطرباه: وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وختمت وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول:
ما لذي شراب راح على رياض الأقاح ** لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباحأو في الأصيل أضحى يقول: ** ما للشمول لطمت خدي؟وللشمال هبت فمال ** غصن اعتدال ضمه برديمما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا ** يا لحظة رد نوبا ويا لماه الشنيبابرد غليل صب عليل ** لا يستحيل فيه عن عهديولا يزال في كل حال ** يرجو الوصال وهو في الصدواشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدرا ** راح ونديموابن بهرودس الذي له:
يا ليلة الوصل والسعود ** بالله عوديوا بن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة وطاق ** وشم وطيبوإنما العيد في التلاقي ** مع الحبيبوأبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهير وقد أسن وعليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس وجرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجري من مقلة ** الفجر على الصباحومعصم النهر في حلل ** خضر من البطاحفتحرك ابن زهير وقال أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون فعرفة فقال ارتفع فوالله ما عرفتك قال ابن سعيد وسابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير وقد شرقت موشحاته وغربت قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:(ما للموله من سكره لا يفيق... يا له سكران من غير خمر ما للكئيب المشوق يندب الأوطان...هل تستعاد... أيامنا بالخليج وليالينا...أو نستفاد... من النسيم الأريج مسك دارينا...أو هل يكاد... حسن المكان البهيج أن يحيينا؟...روض أظله... دوح عليه أنيق مورق الأفنان والماء يجري وعائم وغريق من جنى الريحان).واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
يفوق سهمه كل حين ** بما شئت من يد وعينوينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي ** فليس تخل ساع من قتالوتعمل بذي العينين متاعي ** ما تعمل يدي بالنبالواشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس قال ابن سعيد ولما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج ** بنهر حمص على تلك المروجثم انعطفنا على فم الخليج ** نفض في حانه مسك الختامعن عسجد زانه صافي المدام ** ورداء الأصيل ضمه كف الظلامقال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرف أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه فقال: لا تفغل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب ** فقل كيف تبقى بلا وجدوبعد هذا ابن خزمون بمرسية ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال ** منك سبيلأو هل ترى عن هواك سالي ** قلب العليلوأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرقعاد بحرا في أجمع الأفقفتداعت نوادب الورقأتراها خافت من الغرقفبكت سحرة على الورقواشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل قال ابن سعيد عن والده سمعت سهل ابن مالك يقول: له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك:
واحسرتا لزمان مضى ** عشية بأن الهوى وانقضىوأفردت بالرغم لا بالرضى ** وبت على جمرات الغضىأعانق بالفكر تلك الطلول ** وألثم بالوهم تلك الرسومقال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة فما شنمعتة يقول له لله درك إلا في قوله:
قسما بالهوى لذي حجر ** ما لليل المشوق من فجرجمد الصبح ليس يطردما لليلي فيما أظن غدإصح ياليل إنك الأبدأو قفصت قوادم النسر ** فنجوم السماء لا تسريومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صب ذي ضنى واكتئاب ** أمرضة يا ويلتاه الطبيبعامله محبوبه باجتناب ** ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيبجفا جفوني النوم لكنني ** لم أبكه ألا لفقد الخيالوذا الوصال اليوم قد غرني ** منه كما شاء وشاء الوصالفلست باللائم من صدني ** بصورة الحق ولا بالمحالواشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الاصباح قدحت زناد ** الأنوار في مجامز الزهروابن خرز البجائي وله من موشحة:
ثغر الزمان موافق ** حباك منه بابتسامومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ** قلب صب حله عن مكنسفهو في نار وخفق مثل ما ** لعبت ريح الصبا بالقبسوقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد مر ذكره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى ** يا زمان الوصل بالأندلسلم يكن وصلك إلا حلما ** في الكرى أو خلسة المختلسإذ يقود الدهر أشتات المنى ** ينقل الخطو على ما يرسمزمرا بين فرادى وثنا ** مثل ما يدعو الوفود الموسموالحيا قد جلل الروض سنى ** فثغور الزهر فيه تبسموروى النعمان عن ماء السما ** كيف يروي مالك عن أنسفكساه الحسن ثوبا معلما ** يزذهي منه بأبهى ملبسفي ليال كتمت سر الهوى ** بالدجى لو لا شموس الغررمال نجم الكأس فيها وهوى ** مستقيم السير سعد الأثروطر ما فيه من غيب سوى ** أنه مر كلمح البصرحين لذ النوم منا أو كما ** هجم الصبح هجوم الحرسغارت الشهب بنا أو ربما ** أثرت فينا عيون النرجسأي شيء لامرئ قد خلصا ** فيكون الروض قد مكن فيهتنهب الأزهار فيه الفرصا ** أمنت من مكره ما تتقيهفإذا الماء يناجي والحصا ** وخلا كل خليل بأخيهتبصر الورد غيورا برما ** يكتسي من غيظيه ما يكتسيوترى الآس لبيبا فهما ** يسرق الدمع بأذني فرسيا أهيل الحي من وادي الغضا ** وبقلبي مسكن أنتم بهضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ** لا أبالي شرقه من غربهفأعيدوا عهد أنس قد مضى ** تنقذوا عانيكم من كربهواتقوا الله احيوا مغرما ** يتلاشى نفسا في نفسحبس القلب عليكم كرما ** أفترضون خراب الحبسوبقلبي منكم مقترب ** بأحاديث المنى وهو بعيدقمر أطلع منه المغرب ** شقوة المغرى به وهو سعيدقد تساوي محسن أو مذنب ** في هواه بين وعد ووعيدساحر المقلة معسول اللمى ** جال في النفس مجال النفسسدد السهم فأصمى إذ رمى ** بفؤادي نبلة المفترسإن يكن جار وخاب الأمل ** وفؤاد الصب بالشوق يذوبفهو للنفس حبيب أول ** ليس في الحب لمحبوب ذنوبأمره معتمل ممتثل ** في ضلوع قد براها وقلوبحكم اللحظ بها فاحتكما ** لم يراقب في ضعاف الأنفسينصف المظلوم ممن ظلما ** ويجازي البر منها والمسيما لقلبي كلما هبت صبا ** عادة عيد من الشوق جديدكان في اللوح له مكتتبا ** قوله إن عذابي لشديدجلب الهم له والوصبا ** فهو للأشجان في جهد جهيدلاعج في أضلعي قد أضرما ** فهي نار في هشيم اليبسلم يدع من مهجتي إلا الدما ** كبقاء ألصبح بعد الغلسسلمي يا نفس في حكم القضا ** واعتبري الوقت برجعى ومتابواتركي ذكرى زمان قد مضى ** بين عتبى قد تقضت وعتابواصرفي القول إلى المولى الرضى ** ملهم التوفيق في أم الكتابالكريم المنتهى والمنتمى ** أسد السرج وبدر المجلسينزل النصر عليه مثلما ** ينزل الوحي يروح القدسوأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا وغربا وأولها:
حبيبي ارفع حجاب النور ** عن العذارتنظر المسك على كافور ** في جلناركللي يا سحب تيجان الربى ** بالحلى واجعليسوارها منعطف الجدولولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا واستحدثوا فنا سموه يالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم يظهر حلاها ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه وكان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي إمام الزجالين في عصرنا يقول:ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
وعريش قد قام على دكان ** بحال رواقوأسد قد ابتلع ثعبان ** من غلظ ساقوفتح فمه بحال إنسان ** بيه الفراقوانطلق من ثم على الصفاح ** وألقى الصياحوكان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم وكانوا مجتمعين في زورق للصيد فنظموا في وصف الحال وبدأ منهم عيسى البليدي فقال:
يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ** وقد ضمني عشقو لشهماتوتراه قد حصل مسكين محلاتو ** يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتوتوحش الجفون الكحل إن غابو ** وذيك الجفون الكحل أبلاتوثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
نشب والهوى من لج فيه ينشب ** ترى ايش دعاه يشقى ويتعذبمع العشق قام في بالوان يلعب ** وخلق كثير من ذا اللعب ماتواثم قال أبو الحسن المقري الداني:
نهار مليح يعجبن أوصافو ** شراب وملاح من حولي قد طافواوالمقلين يقول من فوق صفصافو ** والبوري أخرى فقلاتوثم قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد ** في الواد النزيه والبوري والصيادلسنا حيتان ذيك الذي يصطاد ** قلوب الورى هي في شبيكاتوثم قال أبو بكر بن قزقان:
إذا شمر كمامو يرميها ** ترى البوري يرشق لذاك الجيهاوليس مرادو أن يقع فيها ** إلا أن يقبل بدياتووكان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود وله محاسن من الزجل منها قوله:
قد كنت منشوب واختشيت النشب ** وردني ذا العشق لأمر صعبحتى تنظر الخد الشريق البهي ** تنتهي في الخمر إلما تنتهييا طالب الكيميا في عيني هي ** تنظر بها الفضة وترجع ذهبوجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس وقعت له العجائب في هذه الطريقة فمن قوله في زجله المشهور:
ورذاذ دق ينزل ** وشعاع الشمس يضربفترى الواحد يفضض ** وترى الآخر يذهبوالنبات يشرب ويسكر ** والغصون ترقص وتطربوتريد تجي إلينا ** ثم تستحي وتهربومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا والنجوم حيارى ** فقم بنا ننزع الكسلشربت ممزوج من قراعا ** أحلى هي عندي من العسليا من يلمني كما تقلد ** قلدك الله بما تقوليقول بان الذنوب تولد ** وأنه يفسد العقوللارض الحجاز موريكن لك أرشد ** ايش ما ساقك معي في ذا الفضولمر أنت للحج والزيارا ** ودعني في الشرب منهملمن ليس لو قدره ولا استطاع ** النية أبلغ من العملوظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق ** أنا بري ممن يعاند الحققال ابن سعيد لقيتة ولقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
يا ليتني ان رأيت حبيبي ** أفتل اذنو بالرسيلاليش أخذ عنق الغزيل ** وسرق فم الحجيلاثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي تجدد ** ما خلق المال إلا أن يبددومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع وبين نزول ** اختلطت الغزولومضى من لم يكن ** وبقي من لم يزولومن محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي ** وحين حصل لي قربك سببت قاربيوكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش وكان إماما في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارىبقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا ** مذ حلت الشمس في الحملتجددوا كل يوم خلاعا ** لا تجعلوا بينها ثملإليها يتخلعوا في شنبل ** على خضورة ذاك النباتوحل بغداد واجتياز النيل ** أحسن عندي من ذيك الجهاتوطاقتها أصلح من أربعين ميل ** ان مرت الريح عليه وجاتلم تلتق الغبار امارا ** ولا بمقدار ما يكتحلوكيف ولاش فيه موضع رقاعا ** إلا ونسرح فيه النحلوهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية ويسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك وسنين ** وأنت لا شفقة ولا قلب يلينحتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ** صنعة السكة بين الحدادينالدموع ترشرش والنار تلتهب ** والمطارق من شمال ومن يمينخلق الله النصارى للغزو ** وأنت تغزو قلوب العاشقينوكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يا نديمي نشربو ** ونضحكو من بعدما نطربوسبيكة الفجر أحكت شفق ** في ميلق الليل فقم قلبوترى عيارها خالص أبيض نقي ** فضة هو لكن الشفق ذهبوفتنتفق سكتوا عند البشر ** نور الجفون من نورها يكسبوفهو النهار يا صاحبي للمعاش ** عيش الغني فيه بالله ما أطيبووالليل أيضا للقبل والعناق ** على سرير الوصل يتقلبوجاد الزمان من بعدما كان بخيل ** ولش ليفلت من يديه عقربوكما جرع مرو فما قد مضى ** يشرب بيننو وياكل طيبوقال الرقيب يا أدبا إيش ذا ** في الشرب والعشق ترى ننجبووتعجبوا عذالي من ذا الخبر ** فقلت يا قوم من ذا تتعجبوانعشق مليح الا رقيق الطباع ** علاش تكفروا بالله أو تكتبواليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ** يفض بكرو ويدع ثيبوأما الكاس فحرام نعم هو حرام ** على الذي ما يدري كيف يشربوويد الذي يحسن حسابه ولم ** يقدر يحسن الفاظ أن يجلبواوأهل العقل والفكر والمجون ** يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبواظبي بهي فيها يطفي الجمر ** وقلبي في جمر الغضى يلهبوغزال بهي ينظر قلوب الأسود ** وبالوهم قبل النظر يذهبواثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ** ويفرحوا من بعدما يندبوافميم كالخاتم وثغر نقي ** خطيب الأمة للقبل يخطبوجوهر ومرجان أي عقد يا فلان ** قد صففه الناظم ولم يثقبووشارب أخضر يريد لاش يريد ** من شبهه بالمسك قد عيبويسبل دلال مثل جناح الغراب ** ليالي هجري منه يستغربواعلى بدن أبيض بلون الحليب ** ما قط راعي للغنم يحلبواوزوج هندات ما علمت قبلها ** ديك الصلايا ريت ما أصلبوتحت العكاكن منها خصر رقيق ** من رقتو يخفي إذا تطلبواأرق هو من ديني فيما تقول ** جديد عتبك حق ما أكذبوأي دين بقا لي معاك وأي عقل ** من يتبعك من ذا وذا تسلبواتحمل ارداف ثقال كالرقيب ** جين ينظر العاشق وحين يرقبوان لم ينفس عدر أو ينقشع ** في طرف ديسا والبشر تطلبويصير إليك المكان حين تجي ** وحين تغيب ترجع في عيني تبومحاسنك مثل خصال الأمير ** أو الرمل من هو الذي يحسبوعماد الأمصار وفصيح العرب ** من فصاحة لفظه يتقربوبحمل العلم انفرد والعمل ** ومع بديع الشعر ما أكتبوففي الصدور بالرمح ما أطعنه ** وفي الرقاب بالسيف ما أضربومن السماء يحسد في أربع صفات ** فمن يعد قلبي أو يحسبوالشمس نورو والقمر همتو ** الغيث جودو والنجوم منصبويركب جواد الجود ويطلق عنان ** الاغنيا والجند حين يركبوامن خلعتو يلبس كل يوم بطيب ** منه بنات المعالي تطيبوانعمتو تظهر على كل من يجيه ** قاصد ووارد قط ما خيبواقد أظهر الحق وكان في حجاب ** لاش يقدر الباطل بعدما يحجبووقد بنى بالسر ركن التقى ** من بعد ما كان الزمان خربوتخاف حين تلقاه كما ترتجيه ** فمع سماحة وجهو ما أسيبويلقى الحروب ضاحكا وهي عابسة ** غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبوإذا جبد سيفه ما بين الردود ** فليس شيء يغني من يضربووهو سمي المصطفى والاله ** للسلطنة اختار واستنخبوتراه خليفة أمير المؤمنين ** يقود جيوشو ويزين موكبولذي الإمارة تخضع الرؤوس ** نعم وفي تقبيل يديه يرغبواببيته بقى بدور الزمان ** يطلعوا في المجد ولا يغربواوفي المعالي والشرف يبعدوا ** وفي التواضع والحيا يقربواوالله يبقيهم ما دار الفلك ** وأشرقت شمسه ولاح كوكبووما يغني ذا القصيد في عروض ** يا شمس خدر مالها مغربوثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة موشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا وسموه عروض البلد وكان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير فنظم قطعة بطريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها:
اني بشاطي النهر نوح الحمام ** على الغصن في البستان قريب الصباحالسحر يمحو مداد الظلام ** وماء الندى يجري بثغر الاقاحجرت الرياض والطل فيها افتراق ** كثير الجواهر في نحور الجوارمع النواعير ينهرق انهراق ** يحاكي ثعابين حلقت بالثماربالغصون خلخال على كل ساق ** ودار الجميع بالروض دور السوارالندى تخرق جيوب الكمام ** ويحمل نسيم المسك عنها رياحالصبا يطلى بمسك الغمام ** وجر النسيم ذيلو عليها وفاحويطير الحمام بين الورق في القضيب ** قد ابتلت ارياشو بقطر الندىتنوح مثل ذاك المستهام الغريب ** قد التف من توبو الجديد في رداولكن بما أحمر وساقو خضيب ** ينظم سلوك جوهر ويتقلداجلس بين الأغصان جلسة المستهام ** جناحا توسد والتوى في جناحوصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ** منها ضم منقاره لصدره وصاحقلت يا حمام احرمت عيني الهجوع ** أراك ما تزال تبكي بدمع سفوحقال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ** بلا دمع نبقى طول حياتي ننوحعلى فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ** ألفت البكا والحزن من عهد نوحكذا هو الوفا وكذا هو الزمام ** انظر جفون صارت بحال الجراحوأنتم من بكى منكم إذا تم عام ** يقول عناني ذا البكا والنواحقلت يا حمام لو خضت بحر الضنى ** كنت تبكي وترثي لي بدمع هتونولو كان بقلبك ما بقلبي أنا ** ما كان يصير تحتك فروع الغصوناليوم نقاسي الهجر كم من سنا ** حتى لا سبيل جمله تراني العيونومما كسا جسمي النحول والسقام ** أخفاني نحولي عن عيون اللواحلو جتنى المنايا كان يموت في المقام ** ومن مات بعد يا قوم لقد استراحقال لي لو رقدت لاوراق الرياض ** من خوفي عليه ودا النفوس للفؤادوتخضبت من دمعي وذاك البياض ** طوق العهد في عنقي ليوم التنادأما طرف منقاري حديثو استفاض ** بأطراف البلد والجسم صار في الرمادفاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعةه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا:
المال زينة الدنيا وعز النفوس ** يبهي وجوها ليس هي باهيافها كل من هو كثير الفلوس ** ولوه الكلام والرتبة العاليايكبر من كثر مالو ولو كان صغير ** ويصغر عزيز القوم اذ يفتقرمن ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ** وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدرحتى يلتجي من هو في قومو كبير ** لمن لا أصل عندو ولا لو خطرلذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ** ويصبغ عليه ثوب فراش صافيااللي صارت الاذناب أمام الرؤوس ** وصار يستفيد الواد من الساقياضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ** ما يدروا على من يكثروا ذا العتاباللي صار فلان يصبح بو فلان ** ولو رأيت كيف يرد الجوابعشنا والسلام حتى رأينا عيان ** أنفاس السلاطين في جلود الكلابكبار النفوس جدا ضعاف الاسوس ** هم ناحيا والمجد في ناحيايرو أنهم والناس يروهم تيوس ** وجوه البلد والعمدة الراسياومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع ذا الزمان ** اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيكما منهم مليح عاهد إلا وخان ** قليل من عليه تحبس ويحبس عليكيهبوا على العشاق ويتمنعوا ** ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجالوان واصلوا من حينهم يقطعوا ** وان عاهدوا خانوا على كل حالمليح كان هويتو وشت قلبي معو ** وصيرت من خدي لقدمو نعالومهدت لو من وسط قلبي مكان ** وقلت لقلبي اكرم لمن حل فيكوهون عليك ما يعتريك من هوان ** فلا بد من هول الهوى يعتريكحكمتوا علي وارتضيت بو أمير ** فلو كان يرى حالي اذا يبصرويرجع مثل در حولي بوجه الغدير ** مرديه ويتعطس بحال انحرووتعلمت من ساعا بسبق الضمير ** ويفهم مرادو قبل أن يذكروويحتل في مطلو لوان كان ** عصر في الربيع أو في الليالي يريكويمشي بسوق كان ولو باصبهان ** وايش ما يقل يحتاج لو يجيكحتى أتى على آخرها.وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الإستهلال:
سبحان مالك خواطر الامرا ** ونواصيها في كل حين وزمانان طعناه أعظم لنا نصرا ** وان عصيناه عاقب بكل هوانإلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
كن مرعى قل ولا تكن راعي ** فالراعي عن رعيته مسؤولواستفتح بالصلاة على الداعي ** للإسلام والرضا السني المكمولعلى الخلفاء الراشدين والاتباع ** واذكر بعدهم اذا تحب وقولأحجاجا تخللوا الصحرا ** ودوا سرح البلاد مع السكانعسكر فاس المنيرة الغرا ** وين سارت بوعزايم السلطانأحجاج بالنبي الذي زرتم ** وقطعتم لو كلاكل البيداعن جيش الغرب حين يسألكم ** المتلوف في افريقيا السوداومن كان بالعطايا يزودكم ** ويدع برية الحجاز رغداقام قل للسد صادف الجزرا ** ويعجز شوط بعدما يخفانويزف كر دوم تهب في الغبرا ** أي ما زاد غزالهم سبحانلو كان ما بين تونس الغربا ** وبلاد الغرب سد السكندرمبنى من شرقها إلى غربا ** طبقا بحديد أو ثانيا بصفرلا بد الطير أن تجيب نبا ** أو يأتي الريح عنهم بفرد خبرما أعوصها من أمور وما شرا ** لو تقرا كل يوم على الديوانلجرت بالدم وانصدع حجرا ** وهوت الخراب وخافت الغزلانأدرلي بعقلك الفحاص ** وتفكر لي بخاطرك جمعاان كان تعلم حمام ولا رقاص ** عن السلطان شهر وقبله سبعاتظهر عند المهيمن القصاص ** وعلامات تنشر على الصمعاالا قوم عاريين فلا سترا ** مجهولين لا مكان ولا امكانما يدروا كيف يصوروا كسرا ** وكيف دخلوا مدينة القيروانامولاي أبو الحسن خطينا الباب ** قضية سيرنا إلى تونسفقنا كنا على الجريد والزاب ** واش لك في اعراب افريقيا القوبسما بلغك من عمر فتى الخطاب ** الفاروق فاتح القرى المولسملك الشام والحجاز وتاج كسرى ** وفتح من افريقيا وكانرد ولدت لو كره ذكرى ** ونقل فيها تفرق الاخوانهذا الفاروق مردي الاعوان ** صرح في افريقيا بذا التصريحوبقت حمى إلى زمن عثمان ** وفتحها ابن الزبير عن تصحيحلمن دخلت غنائمها الديوان ** مات عثمان وانقلب علينا الريحوافترق الناس على ثلاثة أمرا ** وبقي ما هو للسكوت عنواناذا كان ذا في مدة البرارا ** اش نعمل في أواخر الازمانوأصحاب الحضر في مكناساتا ** وفي تاريخ كأنا وكيواناتذكر في صحتها أبياتا ** شق وسطيح وابن مراناان مرين إذا تكف براياتا ** لجدا وتونس قد سقط بنياناقد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ** عيسى بن الحسن الرفيع الشانقال لي رأيت وأنا بذا أدري ** لكن إذا جاء القدر عميت الأعيانويقول لك ما دهى المرينيا ** من حضرة فاس إلى عرب ديابأراد المولى بموت ابن يحيى ** سلطان تونس وصاحب الأبوابثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه إلى آخر رحلته ومنتهى أمره مع أعراب إفريقية وأتى فيها بكل غريبة من الإيداع وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية إلا أن أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته.